العالم العربي يواجه واقعا جديدا بعد حرب أوكرانيا

لن يكون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مأمن من موجات صدمة غزو روسيا لأوكرانيا والعقوبات التي فرضها الغرب على موسكو بسببه

لقد تفاجأ العالم بتطور الصراع السريع على المستوى العسكري والاقتصادي والإنساني. وكان الأمر نفسه في البلدان العربية، التي لم تكن مستعدة للتعامل مع أي طارئ يهدد بتحدي توازنها الهش. ويمكن أن يؤدي الصراع في أوكرانيا إلى تفاقم الوضع المضطرب والمعقد في المنطقة، إن لم تُتّخذ إجرءات للحد من التبعات ومنع حدوث الأسوأ

وسيكون التدهور خاصة في المجال الاقتصادي، حيث كانت العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تكافح بالفعل للحد من تداعيات الوباء المالية، وتجد نفسها الآن تتعامل مع أزمة اقتصادية جديدة وغير مسبوقة. وستتأثر بلدان المنطقة باحتمالات الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة والقمح مع الانقطاع المحتمل للإمدادات الغذائية. أمّا بالنسبة إلى الدول الأكثر ضعفا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيمكن أن يؤدي الوضع إلى موجة جديدة من الاضطرابات الاجتماعية بنسق يذكرنا بالانتفاضات العنيفة التي هزت دول العالم العربي خلال العقد الماضي

ويمكن القول إن الأمن الغذائي في المنطقة أصبح في خطر أيضا. حيث تتعرض بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تواجه تحديات اقتصادية للتأثير السلبي لارتفاع أسعار الغذاء والحبوب ونقصها. ونذكر من هذه البلدان سوريا وتونس ولبنان واليمن. لكن الفئات الأفقر من جميع سكان المنطقة ستخسر أكثر من غيرها

كما تبقى معظم الدول العربية من أهم مستوردي المواد الغذائية الأساسية. وتعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم حيث يأتي 80 في المئة من إمداداتها من روسيا وأوكرانيا. ويستورد لبنان 60 في المئة من قمحه من أوكرانيا. وكانت تونس تشهد بالفعل ارتفاعات في أسعار المواد الغذائية وتعطل الإمدادات حتى قبل اندلاع الحرب، حيث تستورد البلاد 50 في المئة من قمحها من روسيا وأوكرانيا.
ويتجسّد الأثر الاقتصادي الواضح الآخر للحرب بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تأثيرها على سوق الطاقة. فمن المرجح أن تستفيد الدول المنتجة للنفط والغاز مثل الجزائر وليبيا ودول الخليج العربي من ارتفاع أسعار الطاقة. ومن المتوقّع دعوتها إلى سدّ الفراغ الذي تركته روسيا بعد عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فإن لدول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أو حتى ليبيا، القدرة على ضخ المزيد من النفط. ومع ذلك، فمن المرجح أن تحافظ على توازن جيوستراتيجي دقيق عند تحديد سياستها بشأن أسعار النفط والغاز والإنتاج الطاقي ككل

وتستورد العديد من الدول العربية الأخرى مثل تونس ولبنان والمغرب الطاقة. وستحتاج إلى تحديد طرق تمكّنها من تحمل عبء تمويل فواتير الوقود الباهظة في المستقبل، حيث ستؤدي زيادات أسعار الطاقة إلى ارتفاع معدلات التضخم وربما تصعيد التوترات الاجتماعية

كما من المرجح أن تؤثر التغيرات على الصورة الأوسع للعلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة سياسيّا. فقد تحتاج المنطقة، التي تتعامل بالفعل مع ابتعاد واشنطن الجيوستراتيجي، إلى الاستعداد لتناقص الاهتمام الأوروبي بالشراكات الأوروبية – المتوسطية، حيث يتحول الاهتمام الأوروبي إلى تعزيز التحالفات الاستراتيجية داخل القارة نفسها. ومن المرجح أن يعني هذا التركيز الجديد تخصيص نفقات عسكرية واقتصادية أكبر للمساعدة في إعادة الإعمار في أوروبا الشرقية. كما من المتوقّع أن تكون الموارد المتاحة لمشاريع التنمية الإقليمية والتكامل بين الشمال والجنوب أقل

وقد يعني هذا التحول أيضا أن الاهتمام الذي يوليه الأوروبيون لجيرانهم جنوب البحر المتوسط ​​سيكون مقصورا على محاربة الهجرة غير الشرعية والإرهاب مع تأجيل الدافع إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي إلى مرحلة لاحقة. ويمكن أن تُترك البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية ديمقراطية لتتصارع مع مشاكلها بينما ينشغل شركاؤها الإقليميون بأولويات أخرى في أماكن أبعد

لكن حاجة الغرب إلى رؤية إنتاج المزيد من النفط والغاز قد يمنح مصدّري الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المزيد من النفوذ مع تخليصهم من الضغوط الأوروبية والأميركية التي تفرض عليهم الإصلاح

ويصعب تخيل سيناريو لن تؤثر فيه الحرب في أوكرانيا سلبا على الجهود الدولية لحل النزاعات في المنطقة. وستؤدي الحرب في أوكرانيا إلى زيادة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدلا من دعم أجندة السلام وتعزيزها.
وتخاطر حرب أوروبا بشغل الفاعلين عن صراعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد تجد المؤسسات متعددة الأطراف، وخاصة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، المنقسمة بشدة بالفعل حول كيفية حل النزاعات الإقليمية، لاسيما في ليبيا وسوريا واليمن، نفسها غير قادرة على المساهمة في تسوية النزاع. ويمكن ترك مهمّة التعامل مع الحروب في ليبيا وسوريا واليمن في أيدي أطراف محلية وشبه إقليمية

كما من المنتظر أن يتغير دور روسيا في المنطقة، حيث سيكون عدم الاستقرار في الشرق الأوسط مشكلة أكبر بالنسبة إلى أوروبا مما هي عليه بالنسبة إلى روسيا. وباستثناء سوريا وإيران، حيث تكمن مصالح موسكو الاستراتيجية، يمكن لروسيا أن تلعب دور المفسد بدلا من دور صانع سلام نشط، خاصة إذا شعرت أن مصالحها الحيوية في خطر. وتقدم أحدث خطوة معيقة لموسكو خلال محادثات صفقة إيران مؤشرا على ما يمكن توقعه من روسيا تحت الحصار الغربي

وسيكون للعلاقات المتدهورة بين روسيا والغرب تأثيرها الخاص على الجهود متعددة الأطراف للتعامل مع مختلف الصراعات الجارية في جميع أنحاء المنطقة. ومن المؤكد أنها ستوسع الهوة داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مما يصعب سيناريو التوصل إلى أي إجماع بين الدول الخمس دائمة العضوية بشأن التسوية المحتملة للأزمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

وقد يكون من السابق لأوانه إجراء تقييم كامل لتأثير الحرب الحقيقي على العلاقات العربية – الغربية والتعاون الأورومتوسطي على وجه الخصوص. لكن، قد يكون هناك سبب للأمل. ويمكن أن يوفر الوضع الحالي فرصة للقادة من ضفتي البحر المتوسط​، بمجرد أن تصبح الهدنة سارية المفعول، للتفكير معا في أوجه القصور في العملية السابقة واستكشاف طرق جديدة للتعاون في مجال الطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر

وحان وقت إعادة تقييم الدول العربية لجميع الحسابات السابقة ومعايرتها للتكيف مع التغييرات الجارية. كما يجب أن تحرص المؤسسات الإقليمية العربية على توثيق التعاون في ظل الأزمة الحالية. فقد لا تتمتع الآن بخيار تجاهل التأثير الكارثي لحرب أوكرانيا على أمنها الغذائي واستقرارها الداخلي بعد فشلها في تنسيق جهودها لمواجهة تحدي الوباء الذي ضرب العالم

Facebook
Twitter
LinkedIn