يرى وزير الخارجية التونسي السابق خميس الجهيناوي أن الاختلافات في الرؤى بين تونس والبلدان الأوروبية لا تمس جوهر العلاقات بين الطرفين، لكن تونس في المقابل تعمل على تعزيز علاقاتها بدول صاعدة، لا سيما الصين التي تربطها بها علاقات مطردة في التبادلات التجارية والاستثمار في البنى التحتية التونسية. ويؤكد الجهيناوي أن تطوير تونس علاقاتها بالجزائر هو أمر طبيعي نظراً إلى طول الحدود المشتركة بين البلدين والمصالح المشتركة في المنطقة الحدودية، معتبراً أن ما بين تونس والمغرب هو سحابة صيف ناتجة من مشاركة وفد “البوليساريو” في قمة “تيكاد” في تونس عام 2022. وإذ يقر بأن اتحاد دول المغرب العربي هو اليوم في حالة موت سريري، يلفت إلى أنه اليوم أقل مناطق العالم اندماجاً وتبادلاً للتجارة البينية وهو منطقة غير جذابة للاستثمارات والمشاريع الكبرى.
ويؤكد الجهيناوي أن القضية الفلسطينية استقطبت دعماً عالمياً خلال السنة الماضية تجلى بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة دعم طلبها الحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة بأغلبية 143 صوتاً وبقراري محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية اللذين دانا العدوان الإسرائيلي على غزة. هذه القضايا وغيرها تحدث عنها الجهيناوي في حوار مع “النهار” هنا نصه:
* هل هناك توجه في تونس نحو تغيير البوصلة في اتجاه المعسكر الشرقي على حساب علاقاتها التقليدية الوثيقة بالغرب؟ وهل مثل هذا التحول ممكن موضوعياً؟
– السياسة الخارجية لأي بلد هي قرار سيادي تحدده المصالح الآنية والبعيدة المدى وتتحكم فيه عوامل التاريخ والجغرافيا، وتونس بلد عربي أفريقي في قلب البحر الأبيض المتوسط، ومنفتح منذ بداية التاريخ على العالم الخارجي، ومن الطبيعي أن تكون توجهات سياسته الخارجية مرتبطة بمختلف هذه العوامل والانتماءات وتتفاعل سلباً وإيجاباً معها ومع ما تشهده العلاقات الدولية والإقليمية من تطورات متسارعة.
النسبة الكبرى من تعاملات تونس الاقتصادية مع الخارج – أكثر من 70 في المئة من مبادلاتها التجارية – تتم مع شريكها الأول الاتحاد الأوروبي، ومعظم الاستثمارات الأجنبية فيها تأتي من الفضاء الأوروبي، كما أن العدد الأكبر من أبناء الجالية التونسية في الخارج يعيش في هذا الفضاء، فضلاً عن ملايين السياح الأوروبيين الذين يؤمون سنوياً الشواطئ التونسية. فمن البديهي إذاً أن تولي تونس هذه العلاقات أهمية قصوى لتأثيرها المباشر على مصالحها وأمنها برغم ما يمكن أن يعتري هذه العلاقات في بعض الأحيان من اختلافات في الرؤى وتضارب في التقييمات قد تؤثر وقتياً في وتيرة تطورها، ولكن لا تمس ديمومتها أو جوهرها.
وفي مقابل ذلك تعمل تونس على تنويع علاقاتها من خلال الاهتمام بالأسواق الصاعدة والبلدان الصديقة في آسيا وأميركا الجنوبية التي تجمعها بها علاقات تقليدية تأسست منذ السنوات الأولى للاستقلال على مبادئ الاحترام المتبادل والتعاون المتكافئ والمصلحة المشتركة.
وفي هذا الإطار يندرج سعي تونس لتعزيز علاقاتها وتعاونها مع بلدان صاعدة على غرار الصين التي تشهد تطوراً ملحوظاً في مختلف المجالات وتربطها بتونس علاقات تاريخية، فضلاً عن النمو المطرد الذي تشهده المبادلات التجارية بين البلدين التي عرفت قفزة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة من خلال تضاعف الصادرات الصينية نحو تونس ورغبة هذا البلد الصديق في استكشاف فرص الاستثمار في البني التحتية في تونس والمنطقة عموماً.
* في المغرب العربي ومع فتور العلاقات التونسية المغربية مقابل التقارب الكبير مع الجزائر، هل قطعت تونس مع سياستها القائمة على عدم الانحياز إلى طرف دون آخر في المنطقة؟
– الجزائر والمغرب بلدان شقيقان تربطهما بتونس أواصر تاريخية وحضارية وثيقة تعززت طيلة فترة الكفاح الوطني المشترك لنيل الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، وقد عرفت العلاقات مع كل من الجزائر والرباط تطوراً مهماً خلال العقود الماضية في مختلف المجالات، سواء على المستوى الثنائي أم في إطار اتحاد المغرب العربي.
ومن الطبيعي أن تهتم تونس بصفة خاصة بتطوير علاقاتها مع الجزائر التي تتشارك معها حدوداً برية تتجاوز الألف كيلومتر وتعمل معها بصورة وثيقة في مواجهة التحديات المشتركة على غرار مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، فضلاً عن تعزيز التعاون الاقتصادي والنهوض بالمبادلات التجارية وتنمية المحافظات الحدودية. أما العلاقات التونسية المغربية فهي أيضاً تتسم بالعراقة والتنوع ولا يمكن، في رأيي أن تمس ديمومتها سحابة صيف عابرة تأتت من سوء التفاهم الذي نجم عن مشاركة وفد من جبهة البوليساريو في قمة “تيكاد” في تونس عام 2022.
* في ضوء القرار الجزائري فرض تأشيرات على حاملي الجوازات المغربية، إلى أين تسير العلاقات بين البلدين وهل يمكن لتونس أن تقوم بأي دور لنزع فتيل التصعيد وإحياء مسار المغرب العربي؟
– نلاحظ في الفترة الأخيرة مزيداً من التأزم في العلاقات الجزائرية – المغربية وهي مقطوعة أصلا منذ آب (أغسطس) 2021، كما أن الحدود بين البلدين مغلقة منذ ما يقارب الثلاثين عاماً، ويعتبر ذلك وضعاً غير طبيعي بين جارين شقيقين. ومن واجب أشقاء الجزائر والمغرب، بما في ذلك تونس، العمل من أجل تجاوز هذا الوضع ومساعدة الطرفين على حل خلافاتهما ومد جسور التفاهم في ما بينهما وإيجاد الصيغ الكفيلة بعودة الأمور إلى طبيعتها بما يكفل حماية مصالح الشعبين الشقيقين والحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة.
ولا يمكن لهذه الحالة أن تستمر في ظل وضع دولي وإقليمي غير مستقر، سماته البارزة تأجج الخلافات وتعمق الاستقطاب واستدامة الجمود في علاقات مختلف بلدان المنطقة. فاتحاد المغرب العربي في حالة موت سريري منذ سنوات ولم يجتمع على مستوى القمة منذ سنة 1994، كما أن آخر اجتماع رسمي لوزراء الشؤون الخارجية يعود إلى عام 2016 في تونس، فضلاً عن انقطاع الاجتماعات القطاعية التي كان من المفروض أن تواصل نشاطها في سبيل تعزيز التعاون والتكامل بين دول المنطقة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
فمنطقة المغرب العربي هي اليوم من أقل مناطق العالم اندماجاً حيث لا تتجاوز التجارة البينية بين الدول الأعضاء للاتحاد المغاربي نسبة ثلاثة في المئة من مجموع المبادلات الخارجية لتلك الدول مع العالم، كما أن تباين التوجهات الاقتصادية والتشريعات في مختلف دول المنطقة يجعلها غير جذابة للاستثمار الخارجي وغير قادرة على استقطاب المشاريع الكبرى، فضلاً عن أن تناقض الخيارات الجيوستراتيجية لبعض تلك الدول وعدم التنسيق في ما بينها من شأنهما أن يزيدا الهوة ويجعلا إعادة تنشيط التعاون الإقليمي أمراً شبه مستحيل في الأفق القريب.
* كيف ترون التعاون التونسي مع إيطاليا في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية؟ وما الحل لمشكلة وجود مهاجرين من جنوب الصحراء في تونس؟
– تعد إيطاليا الشريك الثاني لتونس في المجال الاقتصادي، كما يسجل الميزان التجاري معها فائضاً مهماً لمصلحة تونس منذ سنوات، وهي من أقرب الدول جغرافياً إلى تونس، إذ لا تتجاوز المسافة البحرية بين البلدين 200 ميل بحري، ما جعل من الشواطئ الإيطالية قبلة لكل من يرغب في الهجرة غير النظامية من دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء، ولقد تعاون البلدان منذ عشرات السنين على مقاومة الهجرة غير النظامية، كما أبرمت تونس مع إيطاليا اتفاقيات عدة لتشجيع الهجرة القانونية وتمكين طالبي الشغل التونسيين من العمل في إيطاليا، بخاصة في المشاريع الموسمية، غير أن الأزمات الأمنية والسياسية التي يشهدها عدد من دول جنوب الصحراء، وكذلك غياب الحل السياسي في ليبيا وعدم قدرة هذا البلد على التحكم بحدوده الجنوبية، إضافة إلى آثار التغير المناخي وانتشار الجفاف في عدد من الدول الأفريقية، ساعدت على تفاقم أزمة الهجرة عبر الشواطئ التونسية، ما عكّر الأوضاع الأمنية في البلاد التي لم تكن مؤهلة أصلاً لاستيعاب هذا العدد الكبير من المهاجرين، وهو ما دفع الجانب الأوروبي، وبخاصة الإيطالي، إلى تكثيف الاتصالات مع السلطات التونسية لإحكام التنسيق والتعاون لمجابهة هذه الظاهرة ومكافحة الشبكات الإجرامية التي تعمل على استغلال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الهشة للمهاجرين الأفارقة للتغرير بهم ودفعهم إلى الإبحار عبر المتوسط من دون التفكير في الأخطار. وقد أكدت تونس تمسكها بسيادتها وحرصها على عدم الاضطلاع بدور الحارس في جنوب المتوسط.
* هل كانت المساعدة الأميركية والأوروبية منصفة لتونس بعد 2011 أم أن محدوديتها فاقمت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد؟
– تلقت تونس دعماً متفاوتاً من مختلف شركائها، بخاصةً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من الأشقاء العرب، غير أن هذا الدعم لم يكن في حجم التحديات الاقتصادية والأمنية التي واجهتها البلاد بعد 2011 ولم يرق إلى مواكبتها في سعيها لإرساء نظام ديموقراطي يعتمد معايير الحوكمة الرشيدة وعلوية القانون ونظام المؤسسات على غرار ما قدّمه الاتحاد الأوروبي لدول وسط أوروبا وشرقها قبل انضمامها رسمياً إلى الاتحاد. وإن عززت أوروبا نسبياً حجم مساعداتها المالية لتونس في تلك المرحلة مقارنة بفترة ما قبل 2011، فإن تلك المساعدات كانت في مجملها غير كافية، كما لم يتم توظيفها في المشاريع ذات الأولوية الهادفة إلى إجراء الإصلاحات الضرورية لتحسين أداء الاقتصاد الوطني وإنجاح تجربة الانتقال الديموقراطي على غرار إصلاح القطاع العام وإعادة هيكلة الوظيفة العمومية وتحسين منظومة دعم قطاعي الطاقة والغذاء.
أما الولايات المتحدة فقد اقتصر دعمها تقريباً على الجانب الأمني ومكافحة الإرهاب.
* هل كان انتقالكم من الإشراف على الدبلوماسية التونسية إلى إدارة مركز للبحوث انتقالاً سلساً؟ وهل لعمل مراكز البحوث في بلاد مثل تونس أي جدوى؟
-هناك فرق شاسع بين التجربتين، فتقلد المسؤوليات في إطار العمل الحكومي والقطاع العام بصفة عامة يعتبر تشريفاً لخدمة البلاد على المستوى الوطني والمساهمة في تحقيق الأهداف الوطنية من تنمية وإشعاع دولي والحفاظ على أمنها واستقرارها، أما النشاط في مجال البحوث والدراسات والتفكير المنهجي عموماً فهو عمل تطوعي غايته فتح المجال للمختصين والخبراء، بخاصة الشباب منهم، للتعمق في المواضيع التي تشغل الرأي العام ومتابعة تطورات الأحداث الجيوستراتيجية في المنطقة والعالم لفهمها واقتراح حلول لها، بما يساعد أصحاب القرار على اتخاذ التدابير اللازمة الرامية إلى تحقيق مصلحة البلاد وتعزيز مكانتها في الإقليم وفي العالم.
إن ما يسمى بمراكز البحث أو مراكز “العصف الفكري” ظاهرة جديدة في العالم العربي بما في ذلك تونس، وهي أداة أساسية للتدرب على التفكير والتعمق في القضايا الماثلة ومحاججة الرأي بالرأي والاستئناس برأي الخبراء وتوسيع هامش حرية الرأي والتفكير، ما يساعد على ترسيخ قيم الحرية وتعزيز الممارسة الديموقراطية.
و يعتبر “المجلس التونسي للعلاقات الدولية” الذي أنشأته بمعية عدد من كبار المسؤولين في الدولة والدبلوماسيين السابقين في بدايته، وهو يسعى لاستقطاب خيرة الخبراء في المسائل الجيوستراتيجية والاقتصادية والمختصين في العلاقات الدولية بصفة طوعية، ونحن نأمل توسيع علاقات التعاون مع المراكز المماثلة في العالم العربي وبقية دول العالم.
* تمر هذه الأيام الذكرى الأولى لاندلاع حرب غزة، كيف يمكن للدول العربية أن تعمل لوقف هذه الحرب وإيجاد حل عادل ودائم للقضية؟
– لقد شهدت القضية الفلسطينية خلال هذه السنة تطورات غير مسبوقة منذ النكبة عام 1948، فبعد سنوات التهميش عادت القضية من جديد إلى الصدارة مدعومة دعماً متزايداً من الرأي العام الدولي والأغلبية الساحقة من أعضاء الأمم المتحدة، وحصلت فلسطين على مكتسبات قانونية جديدة في سعيها لتوسيع الاعتراف بها على الساحة الدولية، إذ تحسن مركزها في الأمم المتحدة وأصبحت على قاب قوسين أو أدنى من الحصول على صفة عضو كامل الحقوق في المنظمة الدولية بعدما اعتمدت الجمعية العامة في 10 أيار (مايو) 2024 بأغلبية 143 صوتاً قرارها الداعي إلى دعم طلب فلسطين الحصول على عضوية كاملة ودعوتها إلى اعتماد طرق عدة تتعلق بمشاركة دولة فلسطين في دورات الجمعية العامة وأعمالها والمؤتمرات الدولية التي تعقد تحت رعايتها وسائر أجهزة الأمم المتحدة، كما بادر عدد من الدول الأوروبية إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليرتفع عدد الدول التي تعترف اليوم بدولة فلسطين إلى 147.
ومن ناحية أخرى أكدت محكمة العدل الدولية حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة على أراضيه، وأدانت المحكمة الجنائية الدولية جرائم الحرب التي يقوم بها جيش الاحتلال في غزة، معتبرة أن ذلك يمكن أن يرقى إلى جريمة حرب إبادة جماعية. ومقابل هذا الاعتراف المتنامي بالحقوق الفلسطينية يواصل الشعب الفلسطيني التعرض إلى أبشع أصناف الاضطهاد والتصفية، وتواصل إسرائيل على مرأى المجموعة الدولية جرائم الإبادة في غزة والضفة الغربية من دون أي رادع، بل بمساعدة واضحة من عدد من حلفائها الغربيين .
ويعد القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 أيلول (سبتمبر) 2024 خلال الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة وبمبادرة عربية، والذي طالب إسرائيل بإنهاء “وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة لبنة إضافية على طريق تثبيت الحقوق الفلسطينية وإدانة سياسة الاحتلال وتتويجاً لجهد دبلوماسي عربي مكثف خلال الأشهر الماضية. كما يأتي هذا القرار في إطار تنفيذ الرأي الاستشاري للمحكمة الدولية الصادر في 19 تموز (يوليو) 2024 الذي أكدت فيه المحكمة بصفة جلية “أن استمرار وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني وأنها ملزمة بإنهاء هذا الوجود بأسرع ما يمكن، كما دعت إلى الوقف الفوري لكل النشاطات الاستيطانية الجديدة وإجلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبذلك تكون القضية الفلسطينية قد خطت خطوة هامة في تحقيق مشروع تحررها الوطني الذي لا بد من أن يقابله من الجانب الفلسطيني عزم واضح على إنهاء حالة الانقسام والتشرذم والأخذ بزمام المبادرة لتهيئة مرحلة ما بعد الحرب وإقناع المجموعة الدولية بضرورة التحرك بسرعة لإجبار إسرائيل على وضع حد للاحتلال ووضع الأسس لقيام الدولة الفلسطينية المنشودة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة وعاصمتها القدس الشريف، بإشراف قيادة فلسطينية موحدة قادرة على مواصلة المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي والشروع في تعبئة الموارد لإعادة إعمار قطاع غزة الذي دمرته الآلة العسكرية الإسرائيلية.
* هل تخشى أن يكون لتدهور الأوضاع الأمنية في منطقتي الساحل والقرن الأفريقي انعكاسات على شمال أفريقيا، وبالتالي هل ترون احتمال تزايد الهجرة غير الشرعية نحو تونس جراء ذلك؟
– يشهد عدد من البلدان الأفريقية جنوب الصحراء، بخاصة منطقتي الساحل والقرن الأفريقي، حالة خطيرة من عدم الاستقرار والفوضى الأمنية، من خصائصها اهتزاز دور الدولة الوطنية والمؤسسات الحكومية وانتشار الإرهاب والجريمة المنظمة وتتالي الانقلابات وتغيير الحكومات خارج الإطار الدستوري وغياب الحوكمة الرشيدة. وما زاد في احتقان الأوضاع بروز حركات شعبوية تدعي تشبثها بالسيادة واستقلال القرار الوطني لتثبيت وجودها في الحكم من دون أن تكون قادرة على تلبية حاجات شعوبها في التنمية والرفاه الاجتماعي والصحة والأمن.
وقد نجم عن هذا الوضع غير المسبوق انهيار مفاجئ للأمن الوطني دفع النخب العسكرية الجديدة في الحكم التي وضعت حداً للوجود الغربي على أراضيها إلى الاستنجاد بقوى منافسة على غرار روسيا والصين، ما جعل المجال الأفريقي ساحة للتنافس الحاد بين الدول الكبرى، لا سيما في المجال الأمني، وقد زادت حالة عدم الاستقرار في ليبيا وانعدام حل سياسي واضح في الأفق للصراع في هذا البلد الشقيق، من تفاقم الوضع على الساحة الليبية وجعل من الحدود الجنوبية لليبيا ممراً سهلاً لفيالق المهاجرين الراغبين في الالتحاق بأوروبا. وقد أصبحت تونس نتيجة لهذا الوضع منطقة عبور لآلاف المهاجرين القادمين من الحدود الليبية والجزائرية، ما خلق وضعاً أمنياً واجتماعيًاً متوتراً في البلاد لم تكن تونس مهيأة له.
كما أن إصرار الجانب الأوربي على غلق حدوده أمام هؤلاء المهاجرين وعدم قيام المنظمات الدولية والأوروبية بدورها في معالجة الظاهرة وتقديم المساعدات الضرورية لإعاشتهم وإيوائهم زادا في اضطراب الوضع واستفحال الأزمة، سواء بالنسبة إلى المواطنين الأفارقة أم إلى السلطات التونسية التي تجد نفسها مضطرة للتصدي لظاهرة لم تكن لها أي مسؤولية في نشأتها أو مآلاتها هي التي ليست لها أي حدود مباشرة مع أفريقيا جنوب الصحراء.